الصراعات في النفس الإنسانية ( الثورية) مع دواخلها ، وثقافاتها الموروثة ، و التدجين الذي شهدته لخمسة عقود من الزمان في سوريا كلها ؛ جعل لزاماً على المخلصين من أبناء الأمة التوجه إلى بناء الإنسان وفق تصور شامل ينطلق من الشخصية الإسلامية عبر قيمها التي حددها الشرع الإسلامي الذي يرى ضرورة إخضاع الشخصية الإسلامية إلى عملية تحول داخلي وخارجي معاً من خلال العمل على تغيير النفس الإنسانية ” من نفس غير مزكاة إلى نفس مزكاة، ومن قلب مريض مشوش إلى قلب سليم عابد، ومن سلوكيات ظالمة إلى سلوكيات نورانية موفقة”.
ونماذج هذه الشخصية في سلفنا الصالح، وفي الصالحين ممن تبعهم منذ قيام البعثة النبوية إلى يوم الناس هذا كثيرة، وأمثلتنا لا يمكن حصرها ومن أهمها عبر تاريخنا المجيد شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حيث أصبح فاروقاً بين الحق والباطل، والمنهج الإسلامي القويم هو الذي بدل شخصيته بما عرف عنها في الجاهلية إلى قائد عظيم من قادة الأمة عبر تاريخها المجيد.
ضرب أحد الباحثين مثلاً طريفاً لعملية تغيير الإنسان ، ورأى أن عملية التغيير لا تبدأ بالإنسان نفسه بل بالبيئة التي كان يعيش فيها أولا ،” إنه في عالم المحسوسات عندما نريد غرس شيء في قطعة من الأرض، فلابد من اتخاذ الإجراءات الضرورية لذلك مثل: إصلاح الأرض وتمهيدها وتخطيطها والتأكد من توفير المياه اللازمة، فإذا توافر ذلك تمت عملية الغراس، ثم إننا نتعهد بعد ذلك الغرس بالرعاية التي يحتاجها حتى ينضج ويكبر ونستطيع الحصاد، أما في عالم المعنويات فإن الأمر خطير ويحتاج إلى أياد متعددة ومؤسسات مختلفة في إعداد البيئة المحيطة بالشخصية تأهيلها وتهيئتها ، وكذلك تضافر الجهود القريبة لتوجيه الشخصية وفوق كل ذلك يجب أن يتم ذلك وفق خطة إيمانية إسلامية منهجية، وإلا تعرضت كل تلك الجهود للفشل الذريع” .
ورابطة أهل حوران مثال حي على عملية التغيير التي تبدأ بالإنسان، حيث تأسست على يد رجال عرفوا بالصلاح والعلم والتقوى والوطنية، وتسعى إلى وضع القيم الإسلامية مثالاً تستطيع من خلاله إقامة التفاعل الحي المبني على التوافق مع أعضائه والعمل من أجل أمل النفس والأمة والعقيدة، ومن ثم فالمبادئ التي تتربى في ظلها الشخصية تنقسم ضمن هذه الرؤية إلى شخصية سلبية وإيجابية، والفيصل فيهما التمسك بتلك القيم والعمل على تجسيدها حية في النفوس.
وهذه الرابطة المباركة تنظر إلى إصلاح الشخصية الإنسانية في حوران خاصة بتقويم ما اعوج منها عبر فعل سابق – مع سبق الإصرار والترصد من النظام المجرم – وتسعى إلى مساعدة ابن حوران على اكتشاف عيوبه، والتخلص منها بتقديم النموذج الذي يقتدى به، انطلاقا من مفهوم الجماعة التي تمارس مختلف الأساليب والوسائل وتسلك سائر الطرق لتعود بشخصية الإنسان إلى ما ينبغي أن تكون عليه.
والرابطة بما تملكه من كوادر مخلصة ومدربة يمكن أن تحيط بهذه الجوانب الخارجية والذاتية، وأقصد بالخارجية ما يحيط بالإنسان من عوامل بيئية درج عليها المجتمع عن رضا أحياناً، وعن قهر واستبداد أحايين أخرى، فضلاً عن فهم للطبيعة الجغرافية لنشأة الإنسان في حوران، والقيم الجماعية التي نظمت سلوك الناس فيها، وأما الذاتية فأقصد فيها” التكوين النفسي السابق والأثر التاريخي الباطن ومجموعة الصفات الخلقية التي يتميز بها”.
ولأن أهل مكة أدرى بشعابها فإن وجود كوادر الرابطة ممن يعرفون الشاردة والواردة خارجياً وذاتياً عن الشخصية الحورانية جعل عملها مثمراً.
وإن أهم ما يميز هذه الرابطة قيامها على مقومات من أهمها كوادرها البشرية المتميزة التي تتألف من خيرة أهل حوران من أهل العلم ، والتجار المخلصين ، والكوادر الفاعلة ، فضلاً عن قيامها على عمل مؤسساتي متكامل ومتطور في شتى المجالات ، وبهذه المقومات تتم عملية الإصلاح والتكامل بين عناصر الطيف في حوران، وتسعى الرابطة إلى تنسيب أكبر عدد ممكن من أهل العلم والصلاح والفضل والعمل ضمن منظومة مجتمعية لا تعمل في السياسة ، ولا تريد أن تكون حزباً سياسياً ، بل إنها تسعى إلى بناء الإنسان من داخله لبناء مجتمع متكامل .
وتسعى الرابطة من خلال تلك المقومات إلى بناء الشخصية ذات المنهج القويم، ووضوح المعالم، والتميز بالسوية والعدالة، وتسعى إلى أن يحيا أهل حوران مستقبلهم على سلوك موجه ذي هدف واضح، فوحدة المنهج هو الإطار المكمل لسمات الشخصية المطلوبة؛ فهو الذي يوحد الهدف ويوضحه، ومعه تزول إشكاليات التشتت في الولاءات وتزول إشكاليات الهوية والانتماءات.
ولا يجب أن يقطع المنهج المتكامل الذي تريد الرابطة أن تؤصله في النفوس بين الحياة الفردية والحياة المجتمعية، ولا بين الحياة الروحية وحياة الإنجاز الدنيوي الأرضي، بل يجب أن تسعى إلى بناء الأفراد بالإصلاح والإنجاز والتقدم والرقي، والبحث عن السبل للوصول إلى أعلى درجات الإيجابية والتأثير في الحياة المستقبلية بعد سقوط النظام المجرم وسقوط تاريخه وثقافته الاستبدادية من نفوس الناس.
والرابطة في المرحلة القادمة من عمر الثورة السورية المباركة تسعى إلى القيام بإعداد برامج تأهيلية متخصصة تناسب جميع فئات المجتمع. وتبذل في ذلك جهوداً وفق أطر ومناهج تكفل وتضمن تقديم التوجيه والإرشاد، فضلاً عن البرامج التأهيلية والتدريبية على أساس عملية متقدمة، ومن أولوياتها تقديم برامج توعوية للأبناء، وغرس الثقة فيهم وتأهيلهم لكسب عيشهم وتسخير طاقاتهم بما يعود بالنفع والفائدة عليهم.
وتسعى سعياً حثيثاً مع الأبناء لتقديم الكثير من الجهود التي تجعلهم يحرصون على التحصيل العلمي، مع الحرص على رعاية الفائقين منهم في المجالات كافة، ورصد جوائز قيمة لهم من أجل الحفاظ على مواهبهم وتشجيعها، والموهبة هي الضالة التي يجب أن تبحث عنها الرابطة وتنقب عنها لتطلق بعد ذلك برامج لوضعهم في المكان المناسب في المجتمع القادم.
وذلك كله يحتاج إلى إعداد القادة لهذه المرحلة العصيبة والحرجة برؤية مرشدة من خلال القائد الذي تحركه أهدافه وطموحاته، فضلاً عن كونه متوازناً عقلياً وجسدياً وعاطفياً وروحياً ممن يمتلكون مهارات التعامل مع الناس بشتى أنواعهم ومشاربهم، وبفهمهم الواعي لقيم الاتصال، والرابطة لديها من الكوادر القيادية ما يؤهلها لحمل هذه الرسالة، وحمل هم البلد. وهذا كله بدوره يزيد من إمكانية الأداء الواعي للعمل، وتقديم الأفكار الجديدة، وتوليد الطاقات الكامنة في النفوس، وتأصيل روح المبادرة.
ومما يزيد الأمر نجاحاً ورسوخاً اعتماد الرابطة على مبدأ الشورى الذي أصّله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأراد من خلاله بناء الإنسان الفعال، لا الإمعة الفاقد للرأي، عبر هذه التوليفة من الكوادر العاملة والقيادات الفاعلة وعندها تنشأ ثقة الأتباع بالقائد في إطار من العدل والحرية والتدرج بالإصلاح والتثبت والتبيين.
وقد أشرت سابقاً إلى أن الرابطة تتبعت عبر مسيرتها الرجال الفاعلين للاستفادة من طاقاتهم وخبراتهم، ومعرفة الرجال مهارة صعبة المنال؛ لأنها تبنى على مخالطتهم، وتفهم إمكانياتهم ونقاط قوتهم، ووضعهم في المكان المناسب لهم.
والرابطة بعملها المتقن تبني أعمالها على إدارة التكامل في (مفهوم العمل) إيماناً منها بالقيادة الفعالة، والقائد الفعال، والبناء على نقاط القوة، والإيمان بأن القوة الحقيقية تكمن في الاختلاف وليس في التشابه، وأن التدريب المستمر سبيل واع إلى الاقتراب من التشابه والعمل بمقياس جماعي موحد الأهداف.
وسيكون لنا وقفات مع مشاريع الرابطة التي أشرت إلى بعضها في مقالي للوقوف على مبدأ التكاملية وبناء الإنسان.