كان صباحها يعبق برائحة القهوة التركية التي تعودت على إعدادها لنفسها مع طبقين من الزيتون الأخضر، واللبنة البلدية التي كانت تضعهما على صينية متهالكة بانتظار أخيها أحمد الذي يسابق الشمس إلى الفرّان ، ولكنها في هذا الصباح استفاقت على أصوات الجيران والنوم ما زال عالقا على أهدابها، وبقايا أحلام كثيفة تشرنقت مع اليقظة، وريدها بارد رغم سخونة الصيف، حاولت أن تخترع مسافات ممكنة للعدو خارج البيت حين اكتشفت أن أحمد ليس في فراشه.
وكأن العالم كله اكتظ في فنجانها الصباحي الأثير، فمنذ بداية الثورة أدمنت الهواجس، وكانت تكتفي بوجود أخيها معها في بيت متواضع حواهما بعد موت العجوزين، وكانت تكتفي به؛ لأنه وعد الأمان الذي قطعه لأبيه عند نزعه الأخير.
كانت تمزج سكرها بقهوة أمانه، وفجأة ابتلعها الصمت وارتدت قميص الانكفاء حين سمعت عويل جارتهم العجوز التي شاخت هواجسها، وما بين غرفة أحمد والباب كانت بلاطات البيت معبدة بالتوجس والقلق، حافلة بضباب كوني يجثم على صدرها، وكفها البارد وَلََّد ألْفَ كفٍّ ضارعة ألا يكون العويل صدى لضياع الأمان.
وجدت نفسها بين احتمالات الممكن وبراثن المستحيل، ومن صوت العويل المضمخ بالرحيل تناسلت خطواتها حتى وصلت الباب ولكنها لم تقو على فتحه فقبل أيام كان إيدامها جفنات دم وقوتها كسرات خبز معجونة بالهم وبأصوات المدافع .
لم تجد أمام بابها الموصد كلمات يلهج بها لسانها غير : أماه هذي شكوتي بين يديك الحانيتين، قد عباءتي ليل مكفهر، أثقل خطوات أحلامي، والغريب أن النجوم انطفأت هذه الليلة مبكرة، وأنا أحلم بخبز مغمس بالدم، وأصوات حناجر حارة منسية ، وصبايا يحملن أكداس الصقيع رغم الحر.
قطعت لحظات صمتها الواجم طرقات الباب، وكأنها مطارق في رأسها، حينها اختزلت الكون كله في وجه أحمد ، فهو ككتاب جميل الغلاف لم تبدأ بعد بقراءته، و لم تقص أوراقه الملتصقات ليظل حبه صرخة تخترقها بلا ثرثرة، وبدأ يتسرب إلى نفسها نبأ غيابه، وملامح صمته الطفولي الجميل، ونكهة براءته، وكبرياء دمعه .
وأخيرا فُتِحَ الباب لتجد حضن جارتها يستقبلها بالحنان، وبدأت قبل أن تقع عيناها على جسده المسجى بالبكاء حد الانفطار، وكأنها عادت عشرين عاما إلى الوراء لتعود طفلة فاغرة القلب، لم تستطع لملمة حزنها، ولم تتوقف لحظة عن البكاء إلا على الرصيف الذي أسندت رأسها عليه وراحت في غيبوبة مؤقتة حلمت فيها بوعود الهدايا التي تعلقت بالمواقيت والتاريخ والأحلام المؤجلة، فَقَدَتْ في غيبوبتها ذاكرة الفرح بعيد يأتي لتستقبل فيه أحمد عند الباب ببندقية بلاستيكية كان يحلم فيها ليقاتل الشر كمان كان يقول.
رشت العجوز الماء على وجهها فخرجت من غيبوبتها، وزحفت نحو الجسد المسجى لترفع عنه شرشف الجارة ففاجأها أحمد بابتسامة لم تكن تتوقعها .
- أنت حي يا حبيبي … هذه هي ابتسامتك التي أعرفها حين أوقظك من نومك صباحا.
- لم إذا يبكي الجيران؟ لم تنتحبين يا خالة؟
- أحمد يصحو مبتسما … ألا ترين ابتسامته الجميلة؟
ومع كل كلمة تنطقها تتعالى صرخات بكاء الحاضرين ، وتتعالى السباب من الكبار .
ألا لعنة الله على من قتلك يا أحمد.
- لا تقولوا إنه مات فأنا أتكئ بحلمي عليه، إلى من ألجأ حين أتعب أو أغضب أو أمل؟ من سيخترق صمتي؟ ومن سيهمس لطفا حينا بالرفض وأحايين بالغضب؟
- لا أريد الخبز يا حبيبي… فأنت خبزي … ولا أريد الحياة فأنت نافذتي المشرعة على الحياة… ولا أريد بيتا يأويني فأنت سقف بيتي … آه .. ثم آه على عمر مسجى برصاصة غادر… تتوق روحي للدفء الساكن في عينيك…للرغبة التائهة بين رغباتي وحاجبيك…لصمتك الأثير…
- آه يا حبيب أختك ويا أمانها أو ترحل وتتركني ؟
- أو تفعلها ولا تبرُّ بوعدك لأبيك في أن تكون أماني … تبا لقناص غادر أثيم يقتل البراءة .
قطع أبو خالد مختار الحارة نشيجها .
- وحِّدي الله يابنتي إنه من طيور الجنة .
أمسكها من كتفيها وحاول رفعها، ولكنها تشبثت أكثر بأمانها، ورفعت يديه لتحيط بهما رقبتها، ففوجئت برغيف خبز مضمخ بالدماء يتمسك به في يده بشدة ، فزاد نحيبها وعويلها، ضمتها إلى صدرها كما لم تفعل من قبل.يبدو أن الأحلام تموت حين تتحقق.
تماسكت وحملته بين يديها إلى غرفته ، ووضعته على سريره ، ثم طلبت إلى الجميع الخروج لتودعه الوداع الأخير ، وأصر رجال الحارة على دفنه قبل وصول الأنجاس فقد تعودوا خطف الجثامين بعد موت أصحابها.
ودعته بدموع لا تتوقف ، وطلبت إلى الرجال أن يدفنوا أحلامها و رغيف الخبز معه.
بقلم : د. سلطان الحريري
من مجموعته القصصية ( شهادة مع مرتبة الشرف) التي طبعت في الكويت
Leave A Comment