الوقف في الإسلام

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد؛ فمن المواضيع التي تتعلق بعقيدة المسلم، والتي ذكرتها السور المكية؛ موضوعُ الرزق، لقد ذُكر الرزق في غير ما آية في السور المكية، قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22، 23] وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] وغيرها من الآيات كثير، فالرزق جزء من عقيدة المسلم، عقد قلبه على أن الله سبحانه قد قسم الأرزاق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة([1])، والإنسان جنين في بطن أمه كتب الملك رزقه، وأجله، وشقي أم سعيد([2])؛ فالرزق آتٍ لا محالة، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها([3])، فقضية الرزق إذاً قضية محسومة عند المسلم.

الخلق كلهم عيال الله سبحانه، كما جاء في الحديث: «الْخَلْقُ عِيَالُ اللهِ، وَأَحَبُّ عِبَادِ اللهِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ»([4]) والله تعالى هو العدل القسط، لا يظلم أحداً من عياله، وإنما جعل الغني منهم غنياً، والفقير فقيراً؛ لحكمة أرادها سبحانه، يبتلي الغني بماله، ويبتلي الفقير بفقره، ينظر ماذا يعملون، و{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ولو يعلم الفقراء ما أعدَّ الله لهم من الأجر؛ لتمنوا أن يزدادوا فاقةً وحاجةً؛ كما صحَّ ذلك عن رسول الله ﷺ([5])، لو يشاء الله سبحانه لجعل الفقير غنياً، وجعل الغني فقيراً، ولجعل حاجةً الغني عند الفقير، لكنه سبحانه سخرهم لما قدر لهم من الأرزاق، ثم قال لهم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

المؤمنون بالله حقاً يدركون هذه القضية جيداً، ونفوسهم مطمئنةٌ لها؛ لأنها جزء من عقيدتهم، وينظر الغني منهم إلى المال الذي معه على أنه ابتلاء من الله سبحانه، يختبره به، فيضعه فيما يحب الله ويرضى؛ ليفوز بالاختبار، وينجو في الآخرة؛ تلك سنة أنبياء الله ورسله، والصالحين من عباده سبحانه، لقد استجاب الله دعاء نبيه سليمان u، وأعطاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، ولما رأى سليمان u الدنيا ماثلةً بين يديه؛ قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] فعدَّ الغنى ابتلاءً يختبره الله به، ومن هنا أخذ أولئك الثلة من خلق الله ينظرون أين يضعون أموالهم التي سيسألون عنها؛ حتى يفوزوا في هذا الاختبار.

لما فتح الله تعالى على نبيه ﷺ خيبر؛ غنم منها ﷺ غنائم كثيرة، فوزعها ﷺ في أصحابه؛ فجاء إليه عمر t يسأل ماذا يفعل بتلك النعمة؛ يقول عبد الله بن عمر y عن ذلك: أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر، فأتى النبي ﷺ يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها» قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول([6]).

ومن هنا درج المسلمون على أن يوقفوا الأرض، والدور، والمتاع لخدمة دينهم، وأمتهم، ومجتمعهم، حتى أصبح الوقف ركيزة عظيمة من ركائز المجتمع المسلم، قام بدور عظيم في الحفاظ على هذه الأمة، أيام ضعفها وتراجعها، وقام بدور كبير في النهوض بها، وبناء حضارتها وقوتها، ولقد سدَّ الوقف ثلمةً كبيرةً في المجتمع المسلم؛ عجزت الدولة أن تسدَّه يوماً ما، فساهم الوقف في الرقي بالمؤسسة التعليمية في المجتمع المسلم، فنشرت بسببه العلوم على مختلف أنواعها، الشرعية منها والدنيوية، بعد أن أوقف الموسرون الأوقاف على المدارس والجامعات، وعلى حلقات تحفيظ القرآن، وغيرها، وكذا قام الوقف بالمؤسسة الصحية، بما أُوقفه الأغنياء من الأوقاف على المشافي، ودور العجزة، وخدمة المسنين، وكذلك على رعاية الأيتام، وكفالتهم، كما ساهم الوقف في التنمية الزراعة والاقتصادية في المجتمع المسلم، وفي غيرها من مصارف الوقف التي ذكرها علماؤنا.

لقد استطاع الوقف أن يحافظ على حرية الرأي والكلمة؛ ما لم تخالف شرع الله سبحانه، لذا صدع العلماء بالحق بوجه الظلمة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولم يكن للدولة سلطان على أرزاقهم وأقواتهم؛ فقد ضمن لهم الوقف أقواتهم وأرزاقهم، ومن هنا حرص الظلمة من الحكام والطغاة على إلغاء الوقف، وربط أقوات الناس بهم، حتى يضيقوا عليهم متى شاؤوا، ومن هنا كان أجر الوقف مستمراً، لا ينقطع بموت صاحبه، قال ﷺ: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»([7]).

هذه دعوة للأغنياء أن يحيوا هذه السنة النبوية من جديد، ويبذلوا فيها، وينظروا حاجة المجتمع المسلم، ويسدوها بأوقافهم، والله لا يضيع أجر المحسنين؛ وبمثل هذا العمل يفوز الغني باختبار الله له بالغنى، ويجد الفقير ما يحفظ به ماء وجهه عن السؤال.

كتبه: عبد المعين محمد الطلفاح
تاريخ:  26/5/2018م
ملاحظة  “المقالة تعبر عن رأي الكاتب ”
——————————————————-

[1]( ينظر: مسلم، صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط، د. ت) 4/2044).

[2](  ينظر: البخاري، صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل، تحقيق: محمد زهير (القاهرة: دار طوق النجاة، مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1، 1422) 1/70).

[3]( ينظر: الطبراني، المعجم الكبير، سليمان بن أحمد، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد (القاهرة: مكتبة ابن تيمية، ط 2، د. ت) 8/166).

[4]( البيهقي، شعب الإيمان، أحمد بن الحسين، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد (الرياض: مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، ط 1، 1423/2003) 9/521، حديث: ضعيف).

[5]( ينظر: الترمذي، سنن الترمذي، محمد بن عيسى، تحقيق: بشار عواد (بيروت: دار الغرب الإسلامي، د. ط، 1998) 4/161، حديث: صحيح).

[6]( البخاري، صحيح البخاري، مصدر سابق، 3/198).

[7]( الترمذي، سنن الترمذي، مصدر سابق، 3/53، حديث: صحيح).