نظر أفلاطون يوما إلى رجل جاهل معجب بنفسه يختال كالطاووس في مشيته، وينظر من علٍ إلى من حوله، فقال له: ” وددت أني مثلك في ظنك، وأن أعدائي مثلك في الحقيقة”.
ما أكثر المنتفخين في زماننا هذا، فتراهم كالبالونات الممتلئة هواء، وأحدهم ليس بحاجة إلا إلى دبوس ينقر طرف جلده لينفجر، ومن المؤسف أن نسبة كبيرة منهم من ذوي الشهادات الذين أصيبوا بالعجب، رغم أنهم توقفوا عند حدود الشهادة ولم يدعموها بقراءة أو بحث، ونسوا أنهم يعيشون في زمان لا يمكن لأمثالهم اللحاق به في ظل التفجر المعرفي الذي يجري في زماننا هذا.
هناك من ينتفخ بعيدا عن مكابدة العلم وتحصيل الثقافة، فتجد أحدهم وقد ألمَّ بنُتَفٍ من الثقافة، فظن نفسه وحيد عصره، ومن سدنته وصانعيه، وأن العلم انتهى إليه وتوقف عنده، ومنهم من يجلس على كرسي الإفتاء ليفتي بغير علم، وتجد من يخاطبك من برجه العاجي وأنفه في السماء، فقط لأنه قاد مجموعة وحمل سلاحا، وليس مهما من اين حصل عليه، وعلى من حمله، وآخر يجلس في صدر المجلس، ويكاد يرتفع رأسه ليصل إلى سقفه كِبرا وغرورا فقط لأنه يملك المال الذي لا تعرف مصادر تحصيله، وهو في التحصيل العلمي لم يتجاوز الابتدائية، بل وزاد الأمر سوءا بمن يحصل على ورقة من دكان على الشابكة، ليكتب أمام اسمه حرف (الدال) زورا وبهتانا، في ظل ضياع القيم، وإذا حدثت أحدهم فكلامه هو الصواب، ونظرته هي وحدها النظرة الثاقبة، والآخرون – بنظره – غثاء كغثاء السيل، والمحك الوحيد الذي يكشفه إذا ما تكلم فإنه يفصح عن جهله، ومع ذلك لا يتورع عن الاستمرار في الانتفاخ، فهو وأمثاله مركز الدائرة لمجتمع آسن ملوث. فهو كما جاء في المعاجم ” متكبر ، متجبر، متعجرف، متغطرف، منتفخ، تياه، مختال…” ، فتراه على ضآلة ما يملك يميس اختيالا، ويجر أذياله كبرا، ويصعر خده ، ويلوي أخدعه، وينفخ شدقيه، ويزم أنفه، ويرفع رأسه كبرا، ويجاري ظل رأسه، فهل بعد هذا من رذائل تشين الإنسان؟!
هذا الانتفاخ درجة قميئة من درجات الغرور المزيف، وهناك من يخلط بينه وبين الثقة بالنفس، وقد عبر ميخائيل نعيمة عن ذلك بقوله: ” الغرور غير الإيمان بالنفس، ذلك بالوعة وقاذورة، وهذا ميناء ومرساة، وما لم يكن لكم من أنفسكم ميناء ومرساة كنتم حيرة في حيرة، وكان ما تقدمونه رغوة في رغوة. فقبل أن تهتموا بما يقوله الناس فيكم اهتموا بما يقوله وجدانكم لوجدانكم… وإذ ذاك لن تضيق صدوركم بذم، ولن تنتفخ بمدح…”
إن هذا الكلام يكتب بماء الذهب لمن أراد الحقيقة ووقف عندها، فالانتفاخ والغرور من ألد أعداء العلم، وسيأتي الوقت لينفجر المنتفخ ويذهب هباء تذروه الرياح.
عزيزي القارئ الحبيب، إن الغرور يقتل صاحبه، ويدمر المجتمع ، والثقة بالنفس تحيي صاحبها وتبني مجده، وتساهم في بناء الإنسان والمجتمع القويم، فاحذر أن تكون الأول، واحرص أن تكون الثاني.
ونحن – معاشر السوريين – أحوج ما نكون إلى التواضع ، فالغرور رمال متحركة تغرق المنطق، ودلائل الغباء ثلاث: “الغرور والتشبث بالرأي والعناد”، فمن كانت هذه صفاته، فهو ( منتفخ غبي) يظن أنه يحسن صنعا، والأنكى من ذلك أنه يجد من الأغبياء من يطبل له، ويزيد في انتفاخه. فيخاطبه بحضرة القاضي، وسعادة الدكتور، وسيادة القائد، وفضيلة الشيخ … وهم أبعد الناس عن الحضرة والسعادة والسيادة والفضيلة.
ونحن أحوج إلى إشاعة ثقافة التواضع، وخفض الجناح، والتجافي عن مقاعد الكبر، ومذاهب العجب، وهذا التواضع خلق يجب أن يشيع بين الناس، ولاسيما أهل القضية الواحدة الذين يسعون إلى مسعى واحد، كما في حالتنا في الثورة السورية.
فكم من غبي من هؤلاء المنتفخين سالت من أجل انتفاخه الغبي الدماء، وأزهقت الأرواح، وكم من غبي منتفخ ذهبت بفتواه القيم ، فالله الله في نفوسكم وفي أهليكم و في أوطانكم .
ضعوا أنفسكم في ميزان دينكم و ذواتكم، وعندها ستشعرون بضآلة ما قدمتموه مهما كان عظيما أمام الظواهر التي مازالت مجهولة أمامكم. ومن أراد أن يكون سيدا ينبغي له أن يعمل خادما.
و إذا ذهب الانتفاخ خضعنا للحق وانقدنا له، وتقبلناه من كل من يحيط بنا. ولا يمكن أن نسود الناس إلا بأخلاقنا وعلمنا، فالصوت الهادئ أقوى من الصراخ، والتهذيب يهزم الوقاحة، والتواضع يحطم الغرور.
والحكمة تقول : ” يمكن للإنسان صعود أعلى القمم، ولكن لا يمكنه البقاء فيها طويلا”. فاعلم أيها المنفاخ أن الهواء الذي يمدك بالحياة سينتهي، ولن يدوم انتفاخك، والعاقبة أنكى وأصعب.
واعلم أن لا شيء يستطيع أن يحقن في أوردتك جرعات الود العميق تجاه الناس، كما يفعل سلوك التواضع، بعيدا عن ( مكياج) الأهمية والكبر والغرور، فما هي إلا وسائل للكذب والادعاء والتصنع والشعور المزيف بالعظمة.
وقد أثبتت تجارب الحياة أن التكبر والغرور لا يحصلان إلا لنقص وجده الإنسان في نفسه، وأن التطاول لا يكون إلا لوهن أحسه المتطاول في نفسه.
وتذكر عزيزي القارئ قول الشاعر:
خير الدقيق من المناخل نازل وأخسّه وهي النخالة تصعد

د. سلطان الحريري